من فضل الله على الأمة الإسلامية، أن الرسالة الخاتمة جاءت شاملة لكل ما يحتاجه المسلمون في حياتهم الدينية والدنيوية، موجهة لكل الثقلين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ذلك أن الهدف هو هداية الله للإنسان، دون قصر الدعوة على جنس بذاته، أو مكان معين؛ إذ إن دعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- موجهة إلى الناس كافة، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}. (الأعراف الآية 158)
وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (الأنبياء الآية 107).
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}. (سبأ الآية 28).
وعلى ذلك إجماع المسلمين في كل العصور.
وقد وَضُحَ في القرآن الكريم، والسنة النبوية، كيف يؤدي المسلمون واجبهم في الدعوة إلى الله، وهو جانب من المنهاج الإسلامي الكامل.
وإن واجب المسلم لا يقتصر على نفسه فحسب، دون أن تكون له صلة بالمجتمع من حوله، ودون محاولة لهداية غيره إلى الله، متى كان قادرًا على ذلك.
بل تمتد رسالة المسلم إلى إصلاح غيره، مع إصلاح نفسه، وإلى رعاية حق الآخرين في معرفة طريق الهداية والفلاح.
ويُقصد بوسطية الدعوة، أن منهاج الدعوة إلى الله، هو أوسط المناهج وأعدلها وأقومها، وهو الجدير وحده بالاتباع في كل زمان ومكان، وأن هذا المنهاج جانب من التشريع الإلهي، يجب أن يلتزم به المسلم إزاء الآخرين، سواء أكانوا مسلمين يحتاجون إلى تنمية المعارف، أو تزكية النفوس، حتى يكون اتباعهم للشريعة صحيحًا، أم كانوا غير مسلمين تطلب لهم الهداية.
ويمكن أن نحدد بعض الملامح المهمة في منهاج الدعوة، التي وردت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية.
وهي أمور ينبغي للدعاة جميعًا التقيد بها، لا سيما الشباب من الدعاة إلى الله؛ إذ يتميز هؤلاء بفرط حماسهم إلى جانب إخلاصهم، وقد يرغبون في استعجال الثمرة والشعور بالنجاح في أداء رسالتهم، مما يدفع بعضهم إلى مجاوزة المنهاج الوسط، وهو الأقوم والأعدل في الدعوة إلى الله.
من أبرز الملامح في منهاج الدعوة، أن هداية الناس بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. (القصص الآية 56).
وأن مهمة الدعاة التبليغُ والبيان، قال الله تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. (التغابن الآية 12).
وقال تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}. (الشورى الآية 48).
فإذا بذلوا جهدهم في ذلك، فقد قاموا بالواجب، وأدوا الأمانة:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. (الشعراء الآية 3).
والإنسان يؤمن ويهتدي باختياره، ويكفر ويعصي باختياره كذلك، وسيجازى على عمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } .(البقرة الآية 255).
وقال سبحانه في حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. (يونس الآية 99) .
ومن سنن الله القائمة، اختلاف الناس بين الإيمان والكفر: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. (السجدة الآية 13).
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}. (هود الآية 118).
وهذا من أهم ما يجب أن يعرفه الداعي إلى الله، فهو يدعو ويبذل جهده، ويبسط علمه أمام المدعوين، والله سبحانه يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.
ومن أهم ملامح منهاج الدعوة إلى الله، وضوح طريقه ووسائله في القرآن الكريم، والسنة النبوية.
وأن الدعوة تكون عبر وسائل ثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. (النحل الآية 125).
وهذه الوسائل الثلاث، تشمل كل أصناف المدعوين:
فالحكمة: وهي ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والسنة، تجذب أصحاب العقول والفطر السوية.
والموعظة الحسنة: أي ما في الكتاب والسنة من الزواجر والوقائع بالناس، يذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى.
والداعية بهذه الوسيلة يستميل أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.
أما من يحتاج فهمه إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. (العنكبوت الآية 46).
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ومِن بعده الدعاة على طريقته، بالجدال بالوجه الحسن، وبلين الجانب، كما أمر به موسى وهارون - عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله تعالى:
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}. (طه الآية 44).
وهذه الأساليب الثلاثة، أهم أساليب الدعوة التي لا يخرج عن نطاقها والتأثر بها من المدعوين إلا من قال الله تعالى فيهم:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } .(الأعراف الآية 146).
ومنهاج الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب من أبواب الدعوة إلى الله، منهاج الوسط والاعتدال.
فمن أوصاف الأمة الإسلامية التي استحقت بها الخيرية على الأمم، كونها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. (آل عمران الآية 110).
وقد استحق بنو إسرائيل اللعن بتركهم لهذه الشعيرة، قال الله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. (المائدة الآيتان 78، 79).
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يبدأ بنفسه، فيكون قدوة للآخرين، فقد عاب الله من يقول ولا يفعل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. (الصف الآيتان 2، 3).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال.
ومنهاج الإسلام فيه، منهاج الوسط والاعتدال، وتقدير الأحوال والظروف والنتائج، ومراعاة الاستطاعة والقدرة.
لقد قامت الدعوة إلى الله على منهاج الوسطية، وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى في تطبيق هذا المنهاج، الذي سار على هديه الخلفاء الراشدون، والتابعون لهم بإحسان.
وفي هذه الفترة القليلة من الزمن في حياة الأمم، دخل الناس في دين الله أفواجًا، وتكوَّن المجتمع المسلم الواحد في عقيدته وشريعته وسلوكه الاجتماعي، على الرغم من امتداد، الإسلام إلى أقاليم خارج شبه الجزيرة العربية، مثل: مصر والعراق والشام .
وكانت الدعوة إلى الله وفق منهاج الوسطية القرآنية، هي السبيل الأول لانتشار الإسلام ودعوته.
---------------
* من كتاب (الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله ) للشيخ الدكتور / عبد الله بن عبد المحسن التركي.